حقيقة اشباح العاشقين
أرواح واشباح العاشقين
هاتين القصتين كسابقتيهما حقيقيتين..
وقد وقعت أحداثهما بالفعل وسجلتهما كتب التاريخ..
وكالعادة حار الجميع في تفسيرهما حتى الآن..
قد يقول قائل إنها قصص رومانسية خيالية لا تصلح لموقع كابوس المرعب..
بل تصلح لأي موقع يروج للقصص العاطفية..
أشباح المحبين
ألف يوم
في عهد لويس الخامس عشر حدثت قصتنا هذه
في عام 1703م في مدينة (كوندييه) التي تقع على الحدود الفرنسية البلجيكية ولدت (إيبوليت لاكلايرون) أشهر ممثلة فرنسية في عهد الملك (لويس الخامس عشر)..
ولدت كابنة غير شرعية لجاويش في الجيش الفرنسي وأم كانت تبيع جسدها مقابل لقيمات تسد بها رمقها..
لذلك وكما هو متوقع عانت الصغيرة الجميلة شظف العيش منذ نعومة أظافرها..وانزوى جمالها خلف حجب الفقر والهوان..ولذلك وكما هو متوقع أيضا اكتسى قلبها بجدار القسوة..
لذلك فما إن بلغت الثالثة عشرة حتى التحقت بفرقة (كوميدي فرانسيز) المسرحية..وما لبثت أن دفعت الثمن من جسدها لمدير الفرقة ليوافق على انضمامها..ولم تأبه بذلك..فقد قررت منذ الوهلة الأولى لدخولها الفرقة أن تكون ممثلة (فرنسا) الأولى..وبالفعل تحقق لها ذلك..بل وأكثر من ذلك..فلم تصبح الممثلة الأولى فقط بل أصبحت معشوقة الملك وحلم النبلاء..
و قاومت كل رجال العصر.. ترامى الرجال عند قدميها وظلت عالية الرأس..تساقطت الورود حولها..
وتحطمت القلوب عندها . ولكن كانت آمالها أعلى وأقوى من كل هذا الذي يلمع في عيون الناس ويبرق في أيديهم..وسدت أذنيها عن الكذب الجميل..فهي مشغولة عن كل شيء..إنها تريد أن تكون شيئا..تريد أن ترد اعتبارها وأن ترتفع بنفسها عن أصلها الوضيع .
وقد طال عمرها وعاشت حياتها بالطول والعرض وقبل وفاتها بقليل كتبت مذكراتها..
ولم تخف عن قرائها أي شيء..اعترفت بعشاقها وأسمائهم.. ولم تحاول أن تتستر على ضعف الرجال من النبلاء والأغنياء..
وقد أدت هذه المذكرات إلى فضيحة الجميع .. فلم تكد تصدر حتى اختفت في أيام فقد أخفاها كل الذين وردت أسماؤهم فيها..بل إن أحد النبلاء قد اشترى أكثر من ألف نسخة خوفا على والدته التي لم تكن تشك مطلقا في إخلاص أبيه..ولكن تناقل الناس تفاصيل هذه المذكرات..بل إن هذه المذكرات قد أعيد طبعها وأضاف إليها الناشرون قصصا كثيرة من عندهم وراحوا يهددون بها الأسر النبيلة في (فرنسا) ..
قررت منذ الوهلة الأولى أن تكون ممثلة فرنسا الأولى
وسط تلك الحياة الصاخبة ظهر الفتى (سيمون)..و(سيمون) هذا شاب وسيم للغاية..عشق (لاكلايرون) ولا غرابة في هذا ولكن المثير أنها أيضا أحبته ومالت إليه منذ النظرة الأولى..وعرف الناس بقصتهما ولم تهتم لذلك..
غضب منها النبلاء ولكنهم لم يقووا على الابتعاد عنها..بل عادوا يتساقطون تحت قدميها حاسدين الشاب على مكانته عندها..ولكنها أيضا لم تهتم..
وكتبت عن ذلك في مذكراتها تقول:
(تعلمت من الرجال ألا أشعرهم بأن هناك واحد أفضل من الآخرين..وإن كانوا يعلمون إنني لابد أن أختار واحد منهم لذلك يتصارعون تحت قدمي..لكن لا يحطم قلب الرجل إلا شعوره بأنه في منافسة..إن هؤلاء الرجال يفضلون أوهامهم الجميلة..ولكنهم لا يملكون الشجاعة الكافية..كم تمنيت ولو مرة واحدة أن أجد رجلا يمسك سوطا ويضرب كل هؤلاء الموجودين ويختارني بالقوة ويطردهم بعنف..ويسد الباب في وجه الدنيا..وأن يمنعني من الذهاب إلى المسرح..ولكن أحدا لم يفعل ذلك للأسف)
لقد كانت ذكية بالفعل..ووصل بها ذكاءها إلى حد أنها استخدمت النبلاء للسؤال عن الفتى..وكان ما عرفته صعبا..
فهو ليس من الأغنياء ، ولكنه حريص على أن يبدو كذلك..ثم هو يتنكر لأصله ويدعي أنه من سلالة ثرية أبا عن جد..ولكنها عرفت حقيقته..
كان في استطاعتها أن تفهم لماذا يحاول إنسان فقير وضيع أن يبدو نبيلا غنيا فهو مضطر إلى أن يفعل ذلك لعله يلفت نظرها..أو يصرف نظرها عن مئات الأثرياء الحقيقيين الذين سدوا الطريق إليها..
ولكنها كرهت أن يكذب الرجل في عواطفه أو في علاقاته الاجتماعية..
لو قال لها : إنني فقير مثلك . حقير مثلك . ولكني أسمو على كل شيء بحبك.. لو قال ذلك لأحبته وضحت بالدنيا كلها من أجله..
تقول (لاكلايرون) في مذكراتها:
(الرجال يكذبون لكي يبدون أكبر..ولو صدق الرجال لكانوا اكبر..ولكن الرجال لا يعرفون المرأة..
لا يعرفون هذا الطراز المسمى النساء . إنهم لا يعرفون بالضبط ما يعجبني..إنني رقيقة..هذا واضح ولكني أحب العنف.. إنني صريحة ولكني أحب أن أكذب وأن يصدقني الناس..وفي لحظة واحدة أحب أن أكون صادقة حتى آخر نقطة من دمي..أحب الكذب طول الوقت..وأحب الصدق العميق لحظة النشوة .
أيها الرجال أنتم علمتم المرأة كل شيء ونسيتم أن تتعلموا من المرأة شيئا واحدا : متى يكون الكذب ومتى يكون الصدق؟؟)
ولكن قلب المرأة يفتح إذا دقت الشفقة بابه..فالمرأة أم بطبعها..أم لأي رجل..أصغر أو أكبر منها..لذلك لم تتركه..بل قربته منها شفقة به..
لكن الشاب أحبها بجنون و أرادها أن تكون له وحده..وعندما أحست (لاكلايرون) أنه سوف يعطلها عن العمل في المسرح أشارت إلى الذين حولها أن يبعدوا عنها الشاب..وبالفعل امتدت ملايين الأيدي وأبعدته..بل وحطمته
ولكن تلك الأيدي لم تستطع أن تفعل نفس الشيء بقلبه..ولسوء حظ القلوب إنها أبعد من الأيدي . ولذلك إذا استقر فيها داء الحب فلا تستطيع أي يد أن تعالجه أو تحطمه..
لذلك بقي الشاب متعلقا بها.. وراح يبعث لها خطابات طويلة..ولكن (لاكلايرون) تجاهلتها..
وتكدست الخطابات . . ولم تكن تفتحها أو تلقي لها بالا..بالواقع كانت منشغلة بحياتها منغمسة في الحفلات والسهرات والملذات مع علية القوم..
ولكن حب الاستطلاع دفعها يوما لتفتح واحدا منها..وكان ما توقعته..حب مجنون..
ففي أحد خطاباته كتب يقول لها:
صرخة رهيبة مزقت أستار الليل وجمدت الدماء في وجوههم
(لولا أن الانتحار سوف يحرمني من العذاب لأنهيت حياتي..ولكن حياتي هي عذاب البعد عنك..ولذالك سوف أعيش مهما كانت هذه العيشة..فيكفيني أنني بقربك وأن روحي ستحرسك من الأوغاد)
وفي إحدى الليالي جاءتها رسالة عاجلة في الليل مع سيدة عجوز . الرسالة كانت من (سيمون) ويقول فيها: (إنني مريض وأريد أن أراك فقط..هذا منتهى أملي)
وكان في بيتها كالعادة عدد كبير من الضيوف..وتأثرت الآنسة بهذه الرسالة..وقررت أن تذهب لزيارة الشاب المريض ولكن ضيوفها منعوها..وعادت العجوز مع اعتذار رقيق..وعادت الآنسة إلى الحفل..وغنت ورقصت.. وانحنت لتحية ضيوفها عندما كانت الساعة تدق معلنة الحادية عشرة مساء..عندها سمع الجميع صرخة رهيبة مزقت أستار الليل..وجمدت الدماء في وجوههم وترامى بعضهم على أقرب مقعد..وتلفت الجميع حولهم..
وأمسكوا المشاعل وراحوا يفتشون كل غرفة في البيت بل إن بعضهم خرج من البيت إلى البيوت المجاورة..
ولكن لا أثر لأي أحد..
مات سيمون وهو يصرخ من الألم والهوان
وخافت (لاكلايرون) أن تبيت وحدها وطلبت من عدد من الموجودين أن يشاركوها المبيت وناموا حولها على الأرض وظلت هي على فراشها تتقلب حتى الصباح . وعند الصباح جاءت العجوز تقول لها:
إن (سيمون) قد توفي أمس وهو يصرخ من الألم والهوان عند الساعة الحادية عشرة مساء…
وتأثرت (لاكلايرون) قليلا ولكنها تناست الأمر سريعا ودعت الضيوف لحفل في المساء..
وفي تلك الليلة أيضا وفي ذات الساعة سمع الجميع الصرخة الأليمة..
وظن ضيوفها أنها نكتة سخيفة من واحد من الجيران فانطلقوا إلى الشارع ولم يجدوا أحدا..
وقرر الجميع المبيت معها دون دعوة هذه المرة..
وفي الليلة الثالثة وقبل الساعة الحادية عشرة بدقائق توزع الحاضرون في كل غرف البيت وأمام الباب . . وفي الشارع ..ولما حانت الحادية عشرة تعالت الصرخة تهز الجميع..
وكان من المحتم الاتصال بالشرطة..
وفي الليلة الرابعة جاء رجال الشرطة وتكررت نفس الصرخة في نفس التوقيت..وكانت دهشة رجال الشرطة أعنف..ولم يستطع أحد تفسير ما يحدث..
وأحست (لاكلايرون) بالحزن العميق لأنها لم تذهب إلى لقاء (سيمون) في تلك الليلة..وأيقنت أن روحه هي التي تصرخ..ولكنها كانت واقعية..لذا سرعان ما تجاهلت الأمر و اعتادت على الصراخ..
وفي إحدى الليالي قررت أن تتأخر في المسرح إلى ما بعد الحادية عشرة مساء..وعندما وقفت على باب المسرح في انتظار عربتها التي تجرها الخيول جاء أحد عشاقها وعندما كان يودعها ويقبلها على خدها حدث شيء غريب..
فقد أحس إن سيفا من الثلج يمر خاطفا في هذه المسافة الصغيرة بين شفتيه وخدها . وصاحبت السيف الثلجي صرخة عاتية..وسقط الرجل على الأرض فزعا وهربت هي إلى عربتها..
ومرت الأيام..وفي أحد الأيام تم توجيه الدعوة لفرقة (كوميدي فرانسيز) إلى قصر (فرساي) لإحياء الاحتفالات لمدة ثلاث ليال ابتهاجا بزفاف ولي العهد..
وذهبت معهم بالطبع (لاكلايرون) باعتبارها عضوة بالفرقة..وكانوا يبيتون كل اثنين في غرفة..وتشاركت (لاكلايرون) مع إحدى زميلاتها في غرفة..
وقبل أن تنام قالت وهي تداعب زميلتها في الغرفة: كم أتمنى أن نسمع أي صوت في هذا الجو الخانق
ولم تكد تكمل هذه العبارة حتى انطلقت الصرخة تزعزع كل من في القصر..حتى الملك قفز من سريره مذعورا..ولما سأل عن السبب وبالطبع لم يشأ أحد أن يقول للملك حقيقة ما حدث فقالوا له:إنه أحد الحراس السكارى تحت النافذة..فأمر الملك أن يضعوه في السجن فورا!!
وبعد فترة اختفى صوت الصرخة..ولكن حل محله صوت طلق ناري!!
ففي كل ليلة وفي نفس الموعد كانت (لاكلايرون) تسمع طلقا ناريا مدويا . وهو موجه إلى نافذتها . فإذا خرج أ الناس ليفحصوا النافذة لا يجدوا أثرا لأي شيء..وظلت هذه حالها ثلاثة شهور أخرى . . وقد تحرر بذلك محضرا في (باريس) في أغسطس سنة 1744 .
وكالعادة اعتادت أيضا على هذا الصوت ولم تعد تفزع له بل أصبح نكتة تداعب بها ضيوفها فكانت تخرج بهم إلى الشرفة قبل الموعد المعروف..وعند الحادية عشرة تماما يدوي عيار ناري يفزع الضيوف وتضحك هي لذلك..وبعد ثلاثة شهور عاد صوت الصرخة مرة أخرى بدلا من صوت الطلق الناري..
وفي إحدى الليالي جاءتها العجوز التي حملت لها رسالة العاشق المجنون.. وروت لها الحقيقة..قالت:
( كان يحبك . وكان يعلم صعوبة هذه العاطفة . ولكنه لا يدري ما الذي يفعله..إنه يحبك..هذا صحيح.. ولكنه في نفس الوقت يجب أن يعيش من أجل والدته المريضة لكي يعينها على الحياة..
وكم عذبه هذا الصراع الداخلي الذي يعتمل في نفسه..
هل يضحي بحبه من أجل والدته..أم يضحي بوالدته من أجل حبه..
كان يحب والدته..هذا حق..ولكن كان من حقه هو أيضا أن يعيش . وشاء القدر أن تكوني حبه الأول والأخير..
لذلك أصابه المرض وأقعده بعد أن حطمه رجالك.. وفي الليلة التي تمنى أن يراك فيها ..طلب مني أن أذهب إليك أستعطفك للحضور ليلقي نظرة أخيرة عليك لعلها تخفف من ألمه المضني..وعندما ذهبت إليك رفضتي أن تحضري معي..فرجعت إليه حزينة ولم أخبره..ولكنه فهم كل شيء فحاول أن يقف على قدميه وأن يذهب إلى بيتك ويموت بين يديك..ولكنه لم يستطع..وسقط من فراشه صارخا صرخة مزقت نياط قلبي..وكانت النهاية .
وسألت (لاكلايرون): ولكن لماذا يطاردني هذا الصراخ؟
قالت العجوز : سوف يظل هذا الصوت يطاردك بعدد أيام تعذيبك له..ألف يوم تماما..
وبعد ألف يوم اختفى الصوت تماما..واختفت العجوز أيضا..
وظلت (لاكلايرون) سيدة المسرح الفرنسي لأكثر من 22 عاما تالية..
ثم اعتزلت المسرح سنة 1766..وافتتحت بعدها مدرسة لتعليم الفنون المسرحية..
وعاشت طويلا حتى بلغت المائة عام من العمر حيث ماتت سنة 1803 .
وعندما طالعوا مذكراتها اليومية وجدوها كتبت في آخر صفحاتها تقول:
(عندي شعور غريب بأنني سوف أموت قريبا..لا أعرف سر هذا الشعور..ولكن الصوت الذي كان يسمعه الناس معي هذا الصوت أصبح يهمس في أذني ويقول: تعالي إنني أنتظرك..
ومن الغريب إني أجيبه دون شعور مني:سوف آتي في الموعد تماما..
ويهمس الصوت قائلا: بعد شهر واحد
فأجيبه قائلة: لن أتأخر يوما .
وماتت بعد شهر بالضبط..
شجرة العاشقين
شجرة تكثر حولها الأقاويل
في إحدى ليالي صيف 1595 في مدينة (أوت) بإنجلترا توجه الصبي (جاك) ذو الثلاثة عشر ربيعا مع صديقه (مايكل) الذي يماثله في العمر إلى الغابة القريبة التي تتاخم حدود المدينة..
كانت عيونهما تبرقان..وقلبهما يتواثبان من القلق..وبدا واضحا أنهما عقدا العزم على أمر ما..
ذهبا وجلسا على مقربة من شجرة..
شجرة عادية هي..هذا الذي يبدو للجميع نهارا..
ولكن في الليل تكثر حولها الأقاويل..
والناس يهربون من الطريق إليها أو حتى النظر إليها..
بل ويحذرون أولادهم وخدمهم من اللهو بالقرب منها..
فالحكايات كثيرة..
يقال أن حريقا يشب فيها بلا دخان ولا نار..
ويقال إنها تسطع بالنور أثناء الليل..
ولكن لا شيء مؤكد..
لذلك فقد عقدا العزم على أن يميطا اللثام عن تلك الشجرة..
وها هما يجلسان على مقربة منها يرقبانها ويترقبان ما سيحدث بقلوب واجفة..
وفجأة هز واحد منهما الآخر بعنف..
لقد اختفت الشجرة..
ونظر كل منهما للآخر كأنه يقول: هل ترى ما أرى؟
ورددت الأعين نفس الإجابة في ذات اللحظة: نعم..
وتسمر الشابان في مكانهما منبهرين..
وفجأة ظهرت ورقة من أوراق الشجرة..لم تكن خضراء عادية بل كانت بيضاء تشع بالنور..
الورقة تتثنى ثم تسبح قليلا في الهواء على أنغام موسيقي لا يسمعها أحد..
ولكن حركتها الموسيقية بدت وكأنها مرسومة بعناية..
ثم تلتها ورقة وراء ورقة حتى أصبحت الأرض مفروشة بأوراق مضيئة..
وفجأة ظهر فرع شجرة أبيض وفرع آخر وثالث ورابع.. ثم ظهر جذع الشجرة..
واستوت الشجرة في مكانها..
ولكنها كانت تشع بضياء أبيض مبهر..
خرج أثنان من الشباب .. فتى وفتاة
وانفتح قلبها.. وخرج اثنان من الشباب. فتاة وفتى. يتلامسان. يتعانقان. خرجا إلى الغابة.. والضوء يتبعهما.. وتتبعت عينا الشابين هذين العاشقين.. وفجأة اختفى العاشقان..
ونظر الشابان إلى مكان الشجرة فوجداها شجرة عادية.. وهدأ كل شيء..
فركا أعينهما..وأعادا فتحها مرارا في ذهول..
ولكن كان كل شيء قد انتهى..
غمرتهما رجفة عنيفة هزت كيانهما من الخوف..
فأطلقا ساقيهما للريح في نفس اللحظة..وعاد كل منهما إلى بيته لاهثا..
وتدثرا بالأغطية ولكن الرجفة لم تفارقهما لحظة..
وفي لحظة يقرر كل منهما أنه لا يستطيع أن ينام وحده..
فيخرج كل منهما باتجاه بيت الآخر.. ويلتقيان في منتصف الطريق ليجلسا معا حتى الصباح دون كلمة واحدة..
ولكنهما كانا قد عقدا العزم على تكرار التجربة..
ويعود الشابان كل ليلة إلى هذه الشجرة..وتتكرر نفس الأحداث بحذافيرها..
ويريان ويرجعان ولا يفهمان شيئا.. ولكنهما لا يرويان شيئا من ذلك لأحد..
ولا ريب أن ما حدث كان أكبر من قدرتهما على الاحتمال..
إذ مرض الشابان في وقت واحد.. وجاءهما القس.. وكان لابد أن يعترفا.. واعترفا..رويا كل شيء للقس..
وسألهما القس: ولكن لم أخفيتم هذا عن الجميع؟
فرد (جاك): وجدت نفسي عاجزا عن أقول أي شيء لأي أحد.
-ولماذا؟
-لا أعرف.
يلتفت القس ويسأل (مايكل): وأنت ما الذي جعلك تسكت على هذه المعجزة التي رأيتها كل ليلة؟
فيرد (مايكل): أريد أن أقول.. ولكن لا أجد لدي القدرة..أشعر أن هناك قوة تمنعني من الكلام.. ولكني لا أعرف ما هي؟
– وكيف تقول الآن إذن؟
– لا أعرف.. ربما لأنني سوف أموت الآن..ربما كان هذا هو السر.. إذا قلت مت.
– وأنت ماذا تختار؟
– لقد اخترت بلا إرادة مني..لقد قلت..وسأموت الآن..ينبغي أن أدفع الثمن..
ومات الشاب بعد ذلك بلحظات..
ومات الشاب الآخر بعد صديقه بلحظات..
أما القصة فقد أصبحت معروفة بعد ذلك.. أو كانت معروفة ولكن أحدا لا يجرؤ على الكلام.
القس بالتأكيد كان يعرفها.. والعمدة كذلك.. بل والمدينة كلها تعرفها..
وانتشرت القصة في عموم (إنجلترا)..
فما هي تلكم القصة؟؟
هيا بنا نستعرضها سويا…
يلتقيان في الغابة سرا
(دوروثي سوثورث) شابة جميلة وكريمة المحتد..فهي ابنة (جون سوثورث) أحد رجال حاشية الملكة (إليزابيث الأولى) (1533-1603)..
تلك الفتاة أحبت..والحب ليس خطأ في حد ذاته..ولكن الخطأ كان في اختيار الحبيب الذي لم يكن على هوى والدها..كيف لا والشاب الذي أحبته كان فقيرا من عامة الشعب..
لذلك لكم أن تتوقعوا أن والدها لم يوافق على هذا الحب بأي حال..لا يمكن أن يسمح لشاب فقير أن يحب ابنته ولا أن تحبه هي.. ومستحيل أن يقترب منها أو يتزوجها.. إن موتها أهون من أي شيء آخر.
لكن الفتاة أحبت هذا الفتى. وطفقا يلتقيان في الغابة سرا في الغابة تحت بعيدا عن أعين المتلصصين..تحت شجرة شهدت أول لقاء لهما سويا..
ولكن من ذا الذي يستطيع الاختباء من أعين المتلصصين؟؟..
وعرف الناس بحكايتهم..وبدؤوا يتهامسون..ثم يتكلمون..
ووصل كلام الناس إلى الأب متأخرا.. بعد أن أصبح الوهم حقيقة..والحب تعاقدا على الزواج..
وتشجع العاشق-وكل العشاق شجعان- وذهب إلى الأب.. وفوجئ الأب..
ودار بينهما هذا الحوار الذي يحفظه الناس كما يحفظون الصلوات.
الشاب: سيدي أنت تعرف لماذا جئت.
الأب: لا أعرف. ولكني أريد أن أعرف. وصبري له حدود.
الشاب: أنا أحب ابنتك. وهي أيضا.
الأب: لا أسمح لها أن تحب. ولا أن تحبها.
الشاب: ولكن الحب أقوى من الجميع.
الأب: أنا أقوى من الحب. والتقاليد أقوى من الجميع.
الشاب: الحب ينسف كل التقاليد
الأب: لا أسمح لحقير مثلك أن يدخل بيتي. وإذا دخلته لا أسمح له أن يبقى أكثر من ذلك.
الشاب: إنك تحطم قلب ابنتك.
الأب: قلب ابنتي ملكي وأنا حر فيما أملك.
الشاب: ولكنك لا تملك قلبها.
الأب: لا أسمح لأحد أن يعلمني ما يخصني.
الشاب: أنت تبني سطوتك على أوهام.
الأب: ولا أسمح أن يقول لي كلب صغير مثلك هذه الكلمات الطائشة. ولا شيء يسعدني إلا خروجك فورا.
الشاب: سأخرج ولكن يجب أن تعرف أن في ذلك شقاء لقلبين. وقضاء عليها
الأب: أنت تتحدث عن نفسك. أخرج يا كلب يا كذاب.
الشاب: لم أكذب عليك. إنما أنت الذي تكذب على نفسك. وتظن أن سلطاتك بلا حدود. ولكنك سوف تندم.
الأب: أخرج. إنني أندم فعلا لأنني سمحت لوغد مثلك أن يدنس بيتي. أخرج.
وخرج الشاب..
وتحول البيت إلى سجن وأصبح محرما على الابنة أن تخرج..
فكر والدها أن يدخلها الدير..
وكان ذلك هو الحل الأمثل لمشاكل القلوب العاشقة في ذلك الوقت..
ولكن جاء من يهمس في أذن الأب ويقول له:
(بل إذا ذهبت إلى الدير فسوف يكون اللقاء أسهل. هل نسيت ما فعلته ابنة اللورد (…). أو ابنة الكونت(…)). ويتذكر أن بنات الدير أكثر حرية من بنات البيوت في ذلك الوقت. وفي كل وقت..
ويكتفي الأب بأن يسجن ابنته.. يبقيها في بيته حبيسة غرفتها..
حتى الطعام والماء كانا يلقيان إليها من تحت عقب الباب كما تعامل الكلاب..
ولكن الفتاة امتنعت عن الطعام..وهزلت..
ولكن كل من في البيت عطف على الفتاة الجميلة.. فهي لم تفعل شيء سوى أنها أحبت..
لذلك ساعدوها سرا..
وكان خروجها من السجن أسهل من أي وقت مضى..
وكان البيت كله يتستر عليها..
وكانت الفتاة تلتقي بحبيبها كل ليلة تحت الشجرة.
وعلمت الابنة أن والدها سوف يسافر إلى (لندن) لبضعة أيام فكانت في منتهى الفرحة..
و اتفقت هي وحبيبها على الهرب والزواج في أي مكان..
والتقيا في الغابة.. وجلسا تحت الشجرة يناقشان كل شيء.. واتفقا على كل التفاصيل.. ثم عاد كل منهما إلى بيته لتجهيز حقيبته والنوم قليلا حتى الصباح..
ولكن الفتاة لم تنم. لقد ظلت طول الليل ترتب فساتينها.. وأحست أنها عروس في ليلة حنتها.. وأغلقت عينيها تستعجل الصباح وقلبيها يتواثب من الفرحة…
فلما أشرقت الشمس كانت في غرفتها قد ارتدت ثوب الزفاف..
وعندما فتحت بابها كانت كل أبواب البيت مغلقة.. فقد أفسحوا لها الطريق.. وكانت قلوب الخدم تدق وراء الأبواب وتدعو لها بالسعادة..
وخرجت إلى الغابة.. وكانت الأشجار هي الأخرى لا تتحرك. كأنها في حالة خشوع.. لا صوت.. لا همس.. ولا حتى هواء.. قلبها يدق كأنه قلب الكون.. وعند الشجرة وجدت حبيبها ومعه اثنان من أصدقائه..اقتربت منه.. أعطته يدها.. ومد يده يلتقطها..
عندها انغرس سيف في قلبه..
لقد كان أخوها يراقبها في الليلة السابقة واختفي وراء إحدى الأشجار.. وسمع اتفاقهما على الهرب والزواج فتسلل وراءها وفعل ما فعل..
ولم يكن العاشق يحمل سلاحا ولا صديقاه.. ولكن أخاها قتل العاشق وقتل صديقيه..
ووارى الثرى تحت الشجرة ثلاث جثث..وتكفل الليل بالتستر على الجرم الشنيع..
أما الفتاة فأغمي عليها تماما.. ولم تفق إلا في اليوم التالي..وعندما أفاقت صرخت.. وعندما عرفت ما حدث بكت وفقدت وعيها مرة أخرى.
لابد أن أخاها قد توهم بفروسيته الزائفة أن هذا العمل العنيف سوف يرضي أباه.. وسوف يجعله كبير عنده.
بعدها قرر الأب أن يبعث ابنته إلى الخارج في رحلة نسيان. هو ينسى ولعلها هي تنسى أيضا.
سافرت إلى (فرنسا)..ومضت شهور ولكن الفتاة لم تنس… وقيل إنها نسيت..
وبعث الأب بقريبات لها كي يعرفن حالها ويخبرنه.. وعادت القريبات وقلن أنها توشك أن تنسى لكنها تريد أن ترى الشجرة وكل شيء سوف ينتهي بعد ذلك..
ووافق الأب..
ورجعت الفتاة إلى بيتها..
واكتشف الأب أنها لم تنس..
وطلبت الفتاة أن ترى الشجرة..
وأضمر الأب أمرا..وراح يشرب الخمر..ويشرب..ويشرب
وارتدت الفتاة ثوب الزفاف كما كانت ليلة ذهابها لحبيبها..
كان هذا طلبها..ولم يعترض الأب..بل بدا متعجلا من أمره..
وذهب الاثنان سويا تحت جنح الظلام إلى الشجرة..
وما إن رأت الفتاة الشجرة حتى راحت تعانقها..ثم جثت بجوارها تبكي وتقبل الثرى..
ثم اعتدلت جالسة ومازالت تواجه الشجرة ونظرت إلى السماء وقالت:
هيا يا أبي..أنجز مهمتك..ألم أقل لك إن كل شيء سينتهي هنا؟
يقول الأب في اعترافاته التي أفضى بها إلى القاضي فيما بعد:
ولم أعرف إن كنت أنا الذي قتلتها؟
أو كان معي سيف؟
أو أنني وجدت السيف هناك..
لكنها سقطت على الأرض ودمها ينزف
ولكنها سقطت على الأرض ودمها ينزف..
ثم فاضت روحها وهي تنظر إلى السماء وتبتسم..ثم دفنتها في مكانها تحت الشجرة
في ذات اللحظة بدا وكأن الشجرة قد تحولت إلى قطعة من النار أو النور. وانفتحت كأنها باب في حائط مضيء..
ثم خرجت منها ابنتي وعشيقها متعانقين..وابنتي تقول لي:
أشكرك يا أبي..أشكرك
ثم صرخ الأب في قاعة المحكمة:
كنت ثملا هذا حق..وكان يجب أن أكون ثملا حتى تطاوعني يدي على قتل ابنتي..ولكنني لم أقتلها..هي التي قتلتني..هي التي قتلتني..
ثم هوى الأب في قاعة المحكمة ميتا..
مضت مئات السنين..والقصة لم تنقطع على ألسنة الناس..
ومع مرور الزمن تحولت هذه المنطقة من (إنجلترا) إلى حقول.. ونزعت كل الأشجار إلا هذه الشجرة..
بل لقد أحيطت هذه الشجرة بعدد من الصخور.. وكانت هذه الصخور على شكل كف آدمي..
فبدا المنظر للرائي وكأن هذه الشجرة تنبت في كف الحجر..
ونبتت حولها بضع شجيرات أصغر في منظر طبيعي خلاب..وبقيت على هذا الوضع الغريب
وفي سنة 1901 جاء شابان غريبان إلى هذه المنطقة..
كان أحدهما اسمه (جاك) والآخر اسمه (مايكل)..
كانا رسامين أرادا رسم هذا المنظر الطبيعي البديع..
وجن عليهما الليل..
ورأى الاثنان الشجرة تختفي ثم تتحول أوراقها إلى قطع من النور..
وتبدلت الأحداث قليلا..إذ ثم تحولت جذوع الأشجار إلى فتيان وفتيات يتعانقون في خفة ومرح وصمت..
وبعد لحظات انتهي كل شيء..
وفزع الشابان..وأطلقا ساقيهما للريح..ولكنهما باتا ليلتهما وقد أضمرا أمرا..
في الليلة التالية جاء الشابان ومع أحدهما سيف.. وفي الساعة المحددة خرجت الأضواء والفتيان والفتيات من الأشجار. وعندما أمسك الشاب بالسيف في يده لم يجده..
لقد طار وانغرس في قلوب العاشقين واحدا بعد واحد وتساقط العشاق على الأرض..
ومن العجيب أنهم كانوا يبتسمون للشابين وفي عيونهم نظرة امتنان وارتياح..
واختفوا..
وعاد السيف ليد الشاب..وساد الظلام..وانتهى كل شيء..
منذ ذلك اليوم لم تعد تلك الأحداث تتكرر..
وطوى النسيان كل شيء..
ولم يعد للقصة أي أثر إلا في كتب التاريخ..
وقلوب العاشقين